مقابلات ومقالات

  • شارك:

البيانات.. العمود الفقري للبنوك في العالم.. أين نحـــن؟!


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2025/09/26

 

محمــــــد علـــــي ثامــــر*

في عالم اليوم نجد بأن البيانات هي محركة النمو وأداة الاستشـراف، بل وأداة صنع القرارات، حيث تُشكِّل حجر الأساس التي تُبنى عليها المؤسسات والشـركات لكافة خططها واستراتيجياتها التنموية، ولم تعد هكذا غير مُعرَّفة بل أصبح لها مسمياتٍ عدة، كالبيانات الضخمة، والبيانات العميقة، والبيانات المتقدمة، والبيانات المُنظَّمة، والغير مُنظَّمة، وهناك البيانات النوعية، والبيانات الفئوية، والأسمية، والمتسلسلة، والكمية، والمتقطعة، والمستمرة،... إلخ،  وكل هذه الأنواع من البيانات تحتاج دون شكٍ إلى تحليلٍ لمكوناتها؛ سواءً أكان التحليل الوصفي، أو التحليل التشخيصـي، أو التنبؤي، أو التوجيهي، للتعامل معها ظهرت مصطلحاتٌ جديدةٌ أخرى؛ كالبحث العميق، والتحليل العميق، والدلالات العميقة، والتفكير المنطقي، والتفكير العميق، وأيضاً التزييف العميق؛ وهذه الأمور وغيرها هي نتاج لظهور ونمو كمية البيانات منذ مطلع القرن الحالي، حيث نمت بمعدلٍ مذهل مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، والهواتف الذكية، وإنترنت الأشياء، والتطورات التكنولوجية الأخرى، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من (90%) من جميع البيانات التي تم إنشاؤها بواسطة الإنسان قد تـمت خلال السنوات الخمس الماضية، ويُعرف هذا الانفجار المعلوماتي باسم "البيانات الضخمة" – والتي تُقاس بالزيتا بايت (زيتا بايت واحد يساوي: 1,099,511,627,776 جيجا بايت) – لتعد البيانات إحدى طفرات هذا العصـر التكنولوجي والتقني المتقدم، إلى جانب علم البيانات، وتعلم الآلة، والتعلم العميق، والخوارزميات، والذكاء الاصطناعي، ولغة البايثون؛ والأخيرة تعد واحدةٌ من أكثر لغات البرمجة قيمةً وإثارةً للاهتمام بتحليل البيانات... إلخ.

والمُقام هنا قد يطول كثيراً لو استرسلنا في هذا المجال؛ ولكن فما يهمنا حقيقةً هو دراسة البيانات ليس في القطاع الاقتصادي بكله – حيث لا توجد صناعةٌ في عالمنا اليوم لا تستخدم البيانات –؛ وإنما دراسة جزئيةٍ منه تتمثل في القطاع المصـرفي؛ فالبيانات مهمةٌ في العمل المصـرفي فهي تعد الوقود الأساسـي للبنوك، بل وعصب الصناعة المالية برمتها، بدءاً من تسجيل المعاملات البسيطة وصولاً إلى التنبؤ بالأسواق العالمية، ومنها أيضاً احتساب أسعار الأسهم، وتداولها الآلي، وسعر الفائدة، وهذه هي أساسيات عمل البنوك.. أما عِلم البيانات فقد تم استخدامه لأول مرةٍ في التمويل والمصارف في أوائل التسعينيات كحلٍ لمعالجة وضع المؤسسات المالية التي تثقل بالديون نهاية كل عام، وأيضاً لدراسة وتحليل المخاطر، وكشف الاحتيال، وتحسين قرارات منح القروض، وقد تطوَّر ليكون حجر الزاوية في صناعةٍ مالية أكثر ذكاءً واستباقية.

البيانات في البنوك العالـمية:

تُطلق على البيانات عدة ألقاب، منها «نفط القرن الواحد والعشـرين»، أو «الذهب الجديد»، حيث تُعتَبر المفتاح لتحقيق الابتكار، وزيادة الكفاءة، وبناء ثقة العملاء في القطاع المصـرفي، ومع تطور تقنياتٍ مثل الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين، تصبح البيانات أكثر أهميةً في تشكيل مستقبل الخدمات المالية بشكلٍ عام؛ نظراً لكونها تلعب دوراً محورياً في صناعة الخدمات المصـرفية الحديثة، بل وفي تطوير القطاع المصـرفي بكله، ويُمكنها إحداث ثورةٍ فيه من خلال السماح لمؤسساته المالية باتخاذ القرارات، وتخصيص الخدمات، واكتشاف الفرص، والحدِّ من المخاطر، بناءً على بياناتٍ موثوقةٍ ودقيقة؛ وهذا الأمر جعلها تعتمد بشكلٍ كبير على البيانات وعلى تحليلاتها لتحسين جودة خدماتها ومُنتجاتها، وبالتالي خلق تجاربٍ حسنة لعملائها، ويتمثل ذلك عبر تحليل سلوكياتهم وتفضيلاتهم كأنماط الإنفاق، وعادات الادخار، وطرق الاستثمار، مما يُتيح للبنوك تقديم عروضٍ مُخصصة كالقروض، وبطاقات الائتمان، والاستثمارات المتنوعة التي تلائم وتلبي احتياجات كل عميل؛ وبمصطلحٍ أدق ما يسمى بالدعم الفعّال، حيث أن تحليل البيانات في الوقت الفعلي (Real-time Analytics) يُساعد في توفير إجاباتٍ سـريعة للعملاء عبر القنوات الرقمية مثل التطبيقات الرقمية والخدمات المصـرفية الإلكترونية.

كما تلعب البيانات دوراً كبيراً في إدارة المخاطر والامتثال من خلال تقييم الجدارة الائتمانية للبنوك، وتستورد هذه البيانات من مصادر مختلفة كالسجلات المصـرفية، وسلوك السداد، والبيانات الاجتماعية وغيرها، وتُستخدم لبناء نماذج ذكاءٍ اصطناعي تُقدِّر احتمالية تخلُّف العملاء عن السداد، وكذا تستطيع البيانات الكشف عن الاحتيال المالي، وتحليل أنماط المعاملات غير الاعتيادية للكشف عن الأنشطة المشبوهة كغسل الأموال أو تـمويل الإرهاب، وتُساعد أيضاً في تحقيق الامتثال التنظيمي وتطبيق المعايير الدولية في مجال مكافحة غسل الأموال "AML"، وفي تطوير لوائح الخصوصية كالقانون الأوروبي لحماية البيانات العامة الـ(GDPR).

ولهذا فالبيانات تعد مجالاً خصباً لتعزيز الكفاءة التشغيلية لهذه البنوك، وتُساهم في أتـمتة العمليات والمهام الروتينية كمعالجة القروض، والتحقق من الهويات عبر تقنيات أتـمتة العمليات الروبوتية (RPA)، وهذا الأمر ينعكس على التكاليف المالية التشغيلية، ويُساعد في تحديد الهدر المالي أو الموارد غير المُستغلة، مما يُقلل التكاليف ويزيد الربحية، أضف إلى ذلك، فالبيانات لم تكن بعيدةٌ عن عنصـري الإبداع والابتكار في المنتجات المالية والمصـرفية الجديدة كالخدمات المصـرفية المفتوحة (Open Banking) وواجهات برمجة التطبيقات، والتي تعتمد على مشاركة البيانات بين البنوك وشـركات التكنولوجيا المالية (FinTech) لتقديم حلولٍ مصـرفيةٍ مُبتكرة، هذا من جانب، أما من جانبٍ آخر فإن البنوك تستخدم البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لتقديم نصائح استثماريةٍ مُخصصة (Robo-Advisors)، أي ما يمكننا تسميتها بـ(الخدمات الاستثمارية الذكية)؛ الأمر الذي يساعد على اتخاذ القرارات الاستراتيجية، كتوقع الاتجاهات الاقتصادية، واحتياجات السوق، باستخدام البيانات التاريخية والتنبؤية، وتحسين القرارات الإدارية، وتزويد قيادات البنوك برؤىً قائمة على البيانات حول أداء الفروع، وحصة السوق، ورضا العملاء، وأيضاً تعزيز الأمن السيبراني، ومراقبة التهديدات، وتحليل البيانات الأمنية للكشف عن الاختراقات المحتملة أو الهجمات الإلكترونية، وحماية الهويات عبر استخدام البيانات الحيوية (Biometrics) مثل التعرف على الوجه أو البصمة لتأمين الحسابات البنكية.

كما أن هذه البيانات البنكية تفتح أبواباً كبيرةً من أجل التنبؤ بالمستقبل، بل وتعتمد عليها؛ فمثلاً: هل سيسّدد العميل القرض الذي سيأخذه من البنك؟! والإجابة هنا تنبع من خلال الخوارزميات التي تضعها وتُحلِّلها وتُصنفها المؤسسات المعنية بها؛ ولذلك فإن البنوك هي أبرز المؤسسات التي تتبنى استراتيجياتٍ قائمة على البيانات لارتباطها بمجال عملها، ودفعها لتقديم خدماتٍ أفضل لعملائها، بل وتجاوزها إلى تقديم خدماتٍ استثنائية تعمل على تطوير القطاع المالي بما يتلاءم مع التسارع الكبير في النهضة الرقمية والحركة المعرفية التي يشهدها العالم الحديث.

البيانات في البنوك اليمنية بشكلٍ عام:

في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها اليمن منذ عشـرة أعوام (2015 – 2025م) والتي أدت إلى تفككٍ للمؤسسات المالية، بما فيها البنك المركزي اليمني، حيث يوجد الآن بنكان مركزيان (في عدن وصنعاء)، وبالتالي أدى ذلك إلى انقسامٍ في البيانات المالية والسياسات النقدية؛ وهذا الأمر أثَّر تأثيراً مباشـراً على القطاع المصـرفي بشكلٍ عام، وعلى البيانات المالية والمصـرفية وتحليلاتها بشكلٍ خاص؛ فهذه البيانات حتماً ولا بد من أن تلعب دوراً حيوياً في تعزيز كفاءة البنوك اليمنية في مواجهة المخاطر والتحديات، ورصد اتجاهات التضخم، وتقلبات أسعار الصـرف؛ الأمر الذي يُساعدها على تكييف استراتيجياتها لمواجهة هذه التحديات؛ إلا أن استخدامها والاعتماد عليها لا يزال بعيداً عن التحقق في البنوك اليمنية بشكلٍ عام؛ نظراً لعدم تبنيها بصورةٍ حقيقيةٍ لتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة التي ستساعدها على تحليل البيانات الضخمة المتوفرة لديهم، وتؤدي لتقييم المخاطر الائتمانية، وأتـمتة العمليات البنكية عبر استخدام الروبوتات (Chatbots) لخدمة العملاء، وكشف الاحتيال باستخدام خوارزميات التعلم الآلي.. وغيرها؛ وهذا الأمر جعل هذه البنوك أمام معضلةٍ كبيرة تتمثل في تضخم حجم تدفق بياناتها؛ ولكن لا تزال تزاول أعمالها بالطرق التقليدية حيال هذه البيانات الضخمة، ولعل ذلك ناتجٌ من عدم قيامها بتنفيذ التحول الرقمي الشامل في كافة أعمالها وخدماتها أولاً، وثانياً في عدم استيعاب إداراتها وقيادات الصف الأول فيها للجديد في عالم التكنولوجيا الحديثة والتقدم الحاصل فيه حالياً، وثالثاً في اقتصار النظرة الاستثمارية في التكنولوجيا لديها على أقل القليل، بل وتركيزها في الوقت الحالي على تلبية المتطلبات التنظيمية لهذه البيانات، وليس على خلق القيمة الاستراتيجية منها؛ ولهذا لا توجد لديها خطط أو استراتيجيات بيانات تدعم تقديم تحليلاتٍ واسعة النطاق في كل أعمالها؛ رغم أن البيانات تعد أداةً حاسمة لمواجهة كافة التحديات التي تُحدق بهذه البنوك وتشـرح طرق مواجهتها.. إلخ، من الاستخدامات المهمة لهذه البيانات.

نتمنى أن نرى في قادم الأيام توجه بنوكنا اليمنية لاستخدام البيانات بالطريقة الصحيحة والسليمة في جميع أعمالها، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين، والحوسبة السحابية، وغيرها، وأن لا تقف محلك سـر، بينما العالم يتقدم ويتطور، بل ويُثري الحياة بابتكاراتٍ جليلةٍ وعظيمة.. ولا عزاء لأولئك المتخلفون عن الركب الحضاري بتاتاً.

اللهم إني بلغت، فأشهد!!

 

كاتب وباحث اقتصادي

E-mail: ezzthamer81@gmail.com

 

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP