تقارير ودراسات

  • شارك:

أسعار الفائدة المتدنية والمعدومة في عدد من البنوك المركزية الكبرى تقلق صندوق النقد وتعزز من ظاهرة الهروب أمام العملات


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2020/02/24

 

ظاهرة الفائدة المعدومة وحتى السلبية لم تعد محصورة، أقلّه في أوروبا، على العلاقة بين المركزي الأوروبي وبنوك منطقة اليورو، إنما قد تتسع لتطال العلاقة بين البنوك وعملائها لا سيما المودعين، كما هو الحال في ألمانيا اليوم.


مسألة تخفيض الفائدة ليست حالة نادرة إنما ما هو نادر هو أن نودع أموالنا في المصرف وندفع عليها عوضاً عن تقاضي سعر فائدة يرغب المودعين المدّخرين، بنوك مركزية كثيرة في السنوات الأخيرة اعتمدت سياسة تخفيض سعر الفائدة لدعم الاقتصاد، ولا سيما غداة أزمة العقارات الأميركية عام 2008 والتي تحولت في ما بعد إلى أزمة مالية عالمية.


فبدأت بنوك أميركا وأوروبا واليابان المركزية في السباق نحو أسعار فائدة قريبة من الصفر هبوطاً من أكثر من 5 في المئة، والهدف مساعدة البنوك على الإقراض بسهولة وبأرخص من السابق، على أن تقوم هذه البنوك بمساعدة الأفراد والشركات من خلال قروض ميسرة، والهدف في النهاية تحريك العجلة الاقتصادية من خلال استثمار الشركات بفضل قروض على أسعار فائدة متدنية والاستهلاك من قبل أفراد اقترضوا على أسعار فائدة متدنية أيضاً.



هذه الحالة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا حتى بدأت تأخذ مساراً آخر بين المودع والبنك، حيث تعالت صرخة عدد من المودعين في ألمانيا ضد المركزي الأوروبي الذي تمادى في تخفيض سعر الفائدة للبنوك ما جعل الظاهرة تصبح سارية أيضاً على ودائع الزبائن. من هنا إن هدف هذا الإجراء في ألمانيا بالتحديد هو إرغام المودعين على صرف أموالهم لدعم الاستهلاك وبالتالي النمو، لا سيما أن اقتصاد ألمانيا، الأول في منطقة اليورو، أصبح مهدداً بالركود بعد تراجع للنمو بالنسبة للناتج على مدى فصلين متتاليين. فأصبح اليوم بنك من أصل أربعة في ألمانيا يطبق فائدة سلبية على كل حساب إدّخار اعتباراً من حجم ودائع يفوق العشرة آلاف يورو، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على عدد من البنوك في الدانمارك. الأمور لم تقف عند هذا الحد ليقوم أحد البنوك التعاونية في ألمانيا يدعى VRF (Volksbank Raiffeisenbank Fürstenfeldbruck) بإلزام المودعين اعتباراً من أول سنتيم من اليورو على دفع سعر فائدة بواقع 0.5 في المئة في حساب توفير.



قد تكون ظاهرة الفائدة المصرفية السلبية على ودائع توفير الزبائن مربحة للبنك لكنها من دون جدوى لصاحب الحساب وقد يلجأ إلى بنوك أخرى تسدد فوائد مرتفعة، وهنا ستظهر عوامل منافسة في أقوى سوق في منطقة اليورو، وعلى صعيد العلاقة بين البنك المركزي والبنوك في المنطقة فلا شك أن المستفيد هو البنك المركزي الذي يستفيد من ودائع البنوك لديه على فائدة سلبية، حيث يسترجع البنك المودع لدى المركزي أمواله منقوصة بواقع سعر الفائدة.


بحسب صندوق النقد الدولي فإن السياسة النقدية التيسيرية (خفض أسعار الفائدة) تدعم الاقتصاد العالمي على المدى القريب، كما ذكرنا، من خلال عجلة الاستثمار والاستهلاك بفضل قروض للشركات والأفراد على فائدة معدومة أو متدنية، لكن صندوق النقد لم يخف تحذيره من تداعيات تسهيل الظروف المالية على بعض القطاعات، فأصبح معلوماً للجميع في الأسواق العالمية أن البنوك المركزية الكبرى شرعت خلال هذا العام في موجة تخفيض جديدة لأسعار الفائدة من أجل دعم اقتصاداتها في ظل تباطؤ اقتصادي عالمي ناتج عن مواجهات تجارية بين أكبر عملاقين اقتصاديين في العالم (أميركا والصين).


فلاحظنا خلال العام 2019 أن البنك المركزي الأميركي خفض الفائدة الاتحادية 3 مرات هذا العام لتصل إلى نطاق 1.5 – 1.75 في المئة.


من هنا رأى بيان حديث لصندوق النقد الدولي أن ضعف النشاط الاقتصادي وزيادة مخاطر الهبوط دفعا إلى اتخاذ موقف أكثر ميلاً لتيسير السياسة النقدية في جميع أنحاء العالم.



فالسياسة النقدية التيسيرية بحسب نائب المدير العام للصندوق تدعم الاقتصاد العالمي على المدى القريب، فهذه الظروف المالية السهلة تشجع على المخاطرة المالية وتغذي نقاط الضعف في قطاعات معينة، حيث إنه في حين نتوقع ارتفاعاً في معدل النمو العالمي إلى 3.4 في المئة في العام 2020، تشير المخاطر السلبية إلى أن الوتيرة قد تكون ضعيفة. وأوضح المسؤول الثاني في صندوق النقد أن الأسواق المالية العالمية تأثرت بالتوترات التجارية، حيث ساد الضعف في التعامل في قطاعات معينة نتيجة التوترات التجارية والمخاوف المتزايدة بشأن التوقعات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الذي يرى أن السياسة النقدية التيسيرية على المديين المتوسط والبعيد غير فعّالة بل مضرة لبعض القطاعات الاقتصادية وخفض مؤخراً توقعاته لمعدل النمو إلى 3 في المئة في العام 2019 وهو أدنى مستوى منذ عامي 2008 و2009 عزّ الأزمة العقارية المالية الأميركية العالمية.


إن السياسة النقدية الميسرة جداً إلى حد الفائدة السلبية قد تتسع رقعة تداعياتها لتطال العملات مرة واحدة واللجوء نحو عملات رقمية مثل bictoin وحديثاً libra عملة فيسبوك، كما رأى كبير الاقتصاديين في فرنسا باتريك أرتيس، فها هي أكبر البنوك المركزية في بلدان OCDE تتبع منذ العام 2008 سياسة نقدية تيسيرية إلى أبعد حدود لتسهيل القروض من خلال دفع البنوك على الإقراض بدلاً من توظيف أموالها على فائدة مرتفعة لدى البنك المركزي. فالبنك الأميركي المركزي قام خلال هذا العام وبضغط من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتخفيض الفائدة على ثلاث دفعات لتستقر مؤخراً عند مستوى (1.5 و 1.75 في المئة).



البنك المركزي الأوروبي في زمن ماريو دراغي وقبل أن تتسلم الرئاسة كريستين لاغارد خفض الفائدة لتصل إلى مستوى يتراوح من صفر و –0.5 في المئة سلبي، البنك البريطاني المركزي هو الآخر خفض الفائدة لتستقر عن 0.75 في المئة، البنك الياباني المركزي الذي يكافح من أجل عودة معدلات التضخم للارتفاع حاله حال البنك الأوروبي المركزي، خفض الفائدة إلى صفر في المئة. بالإجمال نلاحظ أن معدلات الفائدة في هذه البلدان الكبرى تقل بكثير عن معدلات النمو الاقتصادي.


إذا أخذنا الفترة الممتدة بين عام 2008 تاريخ اندلاع الأزمة المالية العالمية والعام الحالي 2019، نلاحظ بحسب معطيات اقتصادية أن حجم الجدول المصرفي للبنك المركزي الأميركي ارتفع من 900 مليار إلى 3900 مليار دولار، وفي بنك أوروبا المركزي زاد من 900 مليار يورو إلى 3100 مليار، وفي بريطانيا زاد حجم البيانات في الجدول المصرفي للبنك المركزي من 80 إلى 570 مليار جنيه إسترليني وفي اليابان إرتفع حجم الجدول من 120 إلى 570 مليار ين.



إن هذا الارتفاع في حجم الجداول المصرفية للبنوك المركزية التي أشرنا إليها يفسر ظاهرة تدني أسعار الفائدة على المدى الطويل، مثلاً في أميركا فإن سعر الفائدة على مدى عشر سنوات مقدر بنسبة وسطية عند 1.8 في المئة ومقدر بنسبة 0.2- في المئة في اليابان وبنسبة 0.5- في المئة في ألمانيا وبنسبة 0.7 في المئة في بريطانيا.


أسعار الفائدة في هذه البنوك المركزية العالمية ورغم هبوطها إلى مستويات غير مسبوقة نجحت بشكل خجول في عودة معدلات التضخم نحو الارتفاع نوعاً ما لكنها ما زالت بعيدة عن المستوى المستهدف 2 في المئة كمعدل وسطي. في أميركا المعدل 1.5 في المئة وفي منطقة اليورو 1 في المئة وفي اليابان 0.6 في المئة. إذاً الرحلة طويلة نحو الهبوط لأسعار الفائدة.


إن الخطر الحقيقي اليوم المرتبط بالسياسة التصاعدية والمتواصلة في تكديس الأرقام في حجم الموجودات في جداول البنوك المركزية، كما رأينا سابقاً، ليس سوى الهروب أمام العملات. فالمعروف اليوم أن أي بنك مركزي في منطقة OECD أو بلد من البلدان الناشئة يكثر من طباعة العملة يجعل أصحاب القرار في الاقتصاد ورجال الأعمال في بلد هذا المصرف يخشون تراجعاً في قيمة هذه العملة ويحاولون اللجوء نحو أسواق عملات أجنبية ولا سيما الدولار الأميركي.


وعلى سبيل المثال فقد ارتفعت الكتلة النقدية في تركيا (السيولة في العملة المطبوعة لدى البنك المركزي) من 120 مليار ليرة في العام 2012 إلى 530 مليار ليرة في العام 2019، وارفع سعر صرف الليرة التركية في الفترة ذاتها من 1.9 ليرة مقابل الدولار إلى 5.8 ليرة لكل دولار اليوم وأكثر، كذلك الأمر مع الكتلة النقدية في الأرجنتين والبيزوس الأرجنتيني.



والذي نريد أن نستخلصه من هذه العبرة هو أن سعر الفائدة المتدني جداً أدّى إلى وجود المال الرخيص بوفرة وكثرة الطلب على المال نتيجة الفائدة المتدنية يدفع ببلدان هذه الظاهرة إلى طباعة المزيد من المال وبالتالي تبرز ظاهرة التضخم النقدي (الكتلة النقدية)، الأمر الذي يجعل من الهروب أمام العملات مسألة سهلة ويدفع برؤوس الأموال إلى مغادرة أوطانها، وبالتالي تصبح قيمة معدلات الصرف متدنية وقد تحتاج للمزيد من هذه العملة مقابل صرفها أمام الدولار أو اليورو على سبيل المثال.


فتخفيض الفائدة المصرفية في البنوك المركزية قد تكون له حسنات كثيرة ذكرنا بعضاً منها، إضافة إلى تقليص حجم دفع الفائدة على الديون وكذلك الأمر تساعد الفوائد المتدنية على تحقيق مشاريع استثمار عامة وخاصة مع مردود جيد على المدى الطويل طالما أن القروض على الفائدة المتدنية لمدة طويلة. الفائدة المتدنية تساعد أيضاً الدول لتكون في مستوى قادرة فيه على سداد ديونها، لكن لتخفيض الفائدة المركزية سيئات رأينا بعضاً منها ونضيف عليه تراجع ربحية البنك، وبالتالي إلى إنكماش في سياسة القروض والنشاط الاقتصادي.


مازن حمود/ باريس
محلل اقتصادي ومالي


مجلة المصارف العربية 468

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP