تقارير ودراسات

  • شارك:

الديون الصديقة للمناخ .. هل يمكن تخضير النظام المالي العالمي؟


جمعية البنوك اليمنية - صنعاء     بتاريخ: 2023/06/22

 

من الفطرة السليمة أن يفكر رب أي أسرة في الوسائل والتدابير التي يجب أن يقوم بها ليتمكن من توفير حياة كريمة لأسرته. ومن المنطقي أيضا أن يفكر فيما سيورثه لأبنائه من بعده.
كثير من الخبراء والمفكرين الاقتصاديين يفكرون بالمنهج ذاته. فما هي السياسات الواجب اتباعها اقتصاديا لتوفير حياة كريمة لأمتهم أو شعبهم، وما الذي يجب عمله لتوريث الأجيال المقبلة حياة أفضل وأكثر سخاء وكرما من حياتنا الحالية؟ وما هي السياسات والالتزامات المالية التي يجب اتباعها حاليا لتصب لاحقا في مصلحة الأجيال المقبلة؟
الفكر الاقتصادي المحافظ أو التقليدي في الأغلب ما يأخذ موقفا معارضا أو رافضا للديون والأعباء الناجمة عنها، ويبنى الرفض في جزء منه على مخاوف مشروعة بأن أعباء الديون في الأغلب ما تنتقل إلى الأجيال القادمة، ولذلك فإن المحافظين يعارضون عادة فكرة “العيش خارج حدود إمكانيتنا”.
بالطبع إذا كانت الديون ترمي إلى الاستثمار في البنية التحتية أو التعليم أو البحث العلمي أو التكنولوجيا فإن كثيرا من الاقتصاديين يؤكدون أننا أمام ديون “مرحب بها” شريطة أن تكون في حدود ما هو منطقي وأن يكون المجتمع قادرا على السداد لاحقا.
مع هذا فإن قضية الديون باتت الآن أكثر تعقيدا مما مضى، لا يعود ذلك إلى زيادة قيمة الديون العالمية وحسب، ولكن لأن المفهوم السائد في التعامل مع القضية ينظر إليها فقط من زاويا ضيقة، متعلقا بتأثيرها المالي متجاهلا تأثيرها على قضايا المناخ والبيئة.
الدين المالي هو شيء ندين به بعضنا بعضا. وللتبسيط فإن الدين في جوهره ليس أكثر من قطعة من الورق الملزمة قانونية يمكن أيضا تبديلها وتعديلها لمصالح استحقاقات من السلع والخدمات، ولا شك أيضا أن عدم سداد الدين يشوه السمعة وينجم عنه مشكلات اقتصادية كثيرة.
لكن ماذا عن “الديون البيئية” حيث لا يمكن أن نتخلص منها بإعلان إفلاسنا، وقد يستغرق إصلاح الأضرار الناجمة عن “الديون البيئية” عقودا وإنفاق أموال كان يمكن استخدامها لرفع مستوى معيشة السكان، في المقابل الإنفاق الحكيم على البيئة وإعادة تأهيلها مثل الاستثمار للحد من الانبعاثات الغازية والاحتباس الحراري سيجعل الأجيال المقبلة في وضع أفضل حتى إن تم ذلك من خلال “الديون”.
الدكتور ك. نولن الاستشاري الاقتصادي في الأمم المتحدة يرى أنه لم يعد من الممكن للعالم أن يتحمل التقاعس عن العمل في مواجهة تدخل قضية الدين العام والتغير المناخي، مشددا على ضرورة معالجة تحديات الديون والمناخ جنبا إلى جنب.
ويقول لـ”الاقتصادية”: إن “هناك حلقة مفرغة من الضعف الدائم والركود الاقتصادي في الاقتصادات المثقلة بالديون التي تقع في الوقت ذاته في الخطوط الأمامية لمواجهة قضية التغير المناخي، وهذا يعني أن هناك حاجة ماسة لطرح جدول أعمال متعدد الأطراف يعمل على إصلاح هيكل الدين العالمي وتوسيع نطاق تمويل عملية التنمية عبر استثمارات قوية في مجال البيئة والتغير المناخي”.
ويضيف: “الصدمات المتعلقة بالمناخ مثل حالات الجفاف والفيضان أصبحت أكثر تواترا ووحشية، وقدرة البلدان النامية على التكيف معها معطلة بشدة بسبب أعباء الديون المتزايدة والحيز المالي المحدود”.
تتفق وجهة النظر تلك مع تقارير دولية أشارت إلى الحاجة إلى 9.2 تريليون دولار من الاستثمارات كل عام على مدار 30 عاما قادمة للوصول إلى صافي صفر انبعاثات على مستوى العالم، وفي الوقت الحالي يتخذ أكثر من 70 في المائة من التمويل العام للمناخ شكل ديون، ويتم توجيهه بشكل أساس إلى التخفيف من آثار تغير المناخ، ومع زيادة الخسائر والأضرار الناجمة عن تغير المناخ، يزداد الضغط على الميزانيات الحكومية وينمو الاقتراض الخارجي بشكل عام في أعقاب ما يعرف بالصدمات المناخية.
من جهتها، تقول لـ”الاقتصادية”، كاميلا جونسون الباحثة في قضايا التغير المناخي: “الديون ليست الأزمة الوحيدة التي يواجهها الاقتصاد العالمي وتحديدا البلدان النامية، وفقا لتقرير المخاطر العالمية لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، حيث إن الخطر الأكثر تحديا خلال الأعوام العشرة المقبلة هو الفشل في التخفيف من تغير المناخ وثاني أكبر المخاطر هو فشل التكيف مع المناخ”.
وتضيف: “البلدان النامية تحديدا تواجه التحدي المتمثل في مواجهة تهديد تغير المناخ، بينما تتعثر بشدة بسبب عدم القدرة على تمويل العمل المناخي بسبب أزمة الديون الثقيلة، وهذا هو السبب في أن عديدا من القادة يسعون لابتكار طريقة خضراء للخروج من المشكلات الاقتصادية في بلادهم”.
لهذا تحديدا يشهد العالم جهودا حقيقية لدمج الاعتبارات المناخية في هيكل الديون الدولية، وذلك عن طريق إطار قانوني متعددة الأطراف لإعادة هيكلة الديون السيادية وتخفيفها، مع ضرورة تحفيز جميع البلدان التي تواجه تحديات الديون بالربط بين عبء تخفيف الديون وإحراز إنجاز حقيقي في مجال مكافحة التغير المناخي.
من هذا المنطلق تتصاعد الآن الأصوات المنادية بطرح استراتيجية دولية جديدة جوهرها تعريف تغير المناخ على أنه خطر على النظام المالي العالمي، بحيث يترسخ في المخيلة العامة أن ارتفاع المد والجزر قد يؤدي إلى إغراق أسواق الأسهم، وبحيث تستطيع السلطات منع تقلبات السوق عبر فرض جدول أعمال “الاقتصاد الأخضر” على البنوك والمؤسسات المالية الدولية وصناديق التحوط والمشاركين الآخرين في السوق، باختصار أن يسعى الجميع إلى إيجاد شبكة دولية “لتخضير النظام المالي العالمي” بتبني سياسات مالية خاصة في مجال الديون صديقة للمناخ.
مع هذا يحذر بعض الخبراء من الإفراط في الربط بين النظام المالي العالمي وقضية الديون والتغير المناخي.
تقول لـ”الاقتصادية” إليسا هيدسون باحثة في مجال الاقتصاد الدولي وقضايا المناخ: “في الظروف العادية يعد تنظيم الأسواق المالية العالمية المعقدة بتركيبتها المتطورة بشكل متسارع عملية شديدة الخطورة ومحفوفة بالمخاطر، إضافة إلى طبقات جديدة لتلك العملية من خلال إدخال الاقتصاد الأخضر الذي لم يتبلور، كل هذا يجعل من المستحيل على وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية أداء أدوارهم الأساسية بكفاءة وفاعلية، فقضية الديون بمفردها قضية متعددة الجوانب ومعقدة، وإدخال نشطاء المناخ على هذا الخط سيؤدي إلى إرباك المشهد الاقتصادي، وسيوجد تحيزات غير موضوعية في قلب النظام المالي العالمي قد تؤدي إلى انفجاره من الداخل”.
وتضيف: “عقود من فشل سياسات المناخ الدولية بسبب الأخطاء التي ترتكبها البلدان المتقدمة التي تعمل على إلقاء عبء فشلها على عاتق البلدان الأخرى، ولا تريد أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية لهذا الفشل، وتبخل في أن تقدم دعم مالي حقيقي من خلال التخلي عن ديونها للدول التي تواجه تحديات مناخية عاجلة. يرجح أن الربط بين قضية الديون وقضية المناخ يمكن أن يؤدي إلى إبطاء النمو العالمي، هذا إذا لم تقم الدول المتقدمة باتخاذ خطوات جادة لحل قضية الديون المالية، والاهتمام بتداعيات قضية الديون البيئية”.
وفي الواقع فإن البيانات المتاحة تكشف أنه على مدار العقد الماضي تم تقديم التمويل المتعلق بالمناخ عبر مزيد من الديون، ويقلل ذلك بشكل حاد من قدرة البلدان على تحقيق الاستقرار المالي، كما يساعد على تأجيج أزمة الديون خاصة في البلدان الفقيرة، ويؤثر ذلك بدوره على قدرة تلك البلدان في رفع مستوى الوعي الشعبي وتوفير حاضنة شعبية تدعم قضية التغيير المناخي.
ويقول لـ”الاقتصادية” إم. إس روجر الباحث في قضايا التنمية في جامعة لندن: “هناك أيضا تأثير مناخي ناتج عن الديون، فالمستويات المرتفعة للدين الخارجي العام تترجم في الأغلب إلى مزيد من الإيرادات التي تنفق على خدمة الدين، وهذا يجعل من الصعب استثمار الموارد المحلية المحدودة في التكيف مع المناخ والتخفيف من حدته، أو الاستجابة لتحدي الخسائر والأضرار بعد حادث مناخي شديد التطرف، علاوة على ذلك عندما يكافح بلد ما لتسديد ديونه، فإنه في الأغلب يبحث عن خيارات تشمل استغلال الطبيعة من أجل زيادة الصادرات وبالتالي الإيرادات، التي تستخدم لتسديد الديون، وهذا بدوره يسهم بشكل أكبر في تغير المناخ من خلال تسهيل التصحر على سبيل المثال”.
وبالفعل فإن هذا الاتجاه بات مثيرا للقلق بشكل خاص في أعقاب جائحة كورونا، إذ واجهت أعداد متزايدة من البلدان خاصة الفقيرة ارتفاعا في مديونيتها العامة، ومع عدم وجود رغبة أمريكية أو أوروبية حقيقية لتخفيف الديون اضطرت البلدان النامية والفقيرة إلى تنفيذ تدابير تقشفية على نطاقات غير مسبوقة. وفي عالم اليوم فإن عديدا من البلدان النامية تخصص مزيدا من الموارد لخدمة أعباء الدين أكثر مما تخصص للرعاية العامة، بينما تواصل الدول الغربية ضغوطها لمزيد من عمليات الاقتراض بدعوى مكافحة التغير المناخي، ما يجعل قضية المناخ لا تتمتع بالشعبية الواجبة بين عامة الناس.

جمعية البنوك اليمنية   جمعية البنوك اليمنية

رابط مختصر:
UP